الديمقراطيّة في المحاماة
" العنفوان المسلكيّ " و "القضيّة المقضيّة والديمقراطيّة في المحاماة"
بقلم نقيب المحامين وجدي ملّاط
... وكنّا نتوقّف عند التعاليم المتنوّعة المستقاة من التجربتين الفرنسيّة واللبنانيّة للمحاماة. وكان يبدو لنا وفي طليعة هذه التعاليم الإرشاد الذي يدعو إلى أن يبقى المحامي حيال القضايا القانونيّة المعهود بها إليه، ايًّا كانت طبيعتها، متحذرًا من الانصياع إلى "العنفوان المسلكيّ": الذي قد يجرّه إلى ما يشبه التقمّص بكلّ قضيّة ويزجّه في الاعتمالات الشخصيّة، كلّما جاءه توكيل في نزاع فيُخشى أن يصبح أكثر ملكيّة من الأصيل. ومن هنا الحكمة في أن يستمسك الوكيل بالاستقلال التام الذي يحول دون أن تتغشّى نظرته للأمور، فيقع في تبعيّة العوامل غير المسلكيّة.
وثمّة فائدة كبرى اقتبسها أيضًا المحامون من التجربة اللبنانيّة الرائدة، القائمة بين عام 1919 وعام 1943، وذلك من جرّاء انصراف روّادهم إلى نشر المفهوم الديمقراطيّ في الحياة العامّة، منذ الحين الذين اعتمدوا فيه الجمع بين العملين المهنيّ والسياسيّ، فحملوا إلى الندوة البرلمانيّة الملكات المكتسبة لدى المحامي من جرّاء المفهوم المتّصل بمعاني الخصومة في المهنة، تلك الخصومة الاحتفاليّة الواجبة التي تلازم المحامي كما يلازمه رداؤه أثناء قيامه بمهامه ويتخلّى عن الخصومة كما يتخلّى عن هذا الرداء فور انتهاء المحاكمة في القضيّة.
ومن هذا المنطلق تنامت المؤازرات التي قدّمتها المحاماة لشرعة الديمقراطيّة الداعية إلى حتميّة قبول "الإنسان الآخر" والإصغاء إليه واعتبار وجوده لا يتجزّأ من المعطيات الكافلة لضمان الوئام في المجتمع.
وكان لافتًا لدينا في عداد التعاليم التي تحسب من المرتكزات الأساسيّة للمسيرة الديمقراطيّة، الدور العائد لمفهوم القضيّة المقضيّة في نظام المحاماة المفضي إلى الإقلاع عن النظرة المطلقة إلى الأشياء، والتسليم بأنّه لا يمكن الأخذ بها سوى في الأمور العائدة إلى القناعات الدينيّة وحدها، وعلى مسؤوليّة.
والقضيّة المقضيّة كما هو معلوم هي الشرعة التي يضطرّ أن يذعن لها العقل ويعدّها مؤذنة بانتهاء النزاعات القضائيّة بين الناس، وذلك ليس لأنّها تؤلّف التعبير الصحيح عن الحقّ، بل لأنّها أُنزلقتْ اتّفاقًا منزل الحقيقة، تبعًا لتعذّر توافر سبيل آخر للمنطق يسمح بوضع حدّ قاطع للمصادمات القانونيّة بين البشر.
تلك كانت المعايير والمقايسات التي شدّت المحامين إلى الشجرة الديمقراطيّة، وأدّت إلى إنضاج ثمارها وذلك في المرحلة الأولى البنّاءة من قيام نقابة المحامين في بيروت وطرابلس. ولا شكَّ في أنّ وصول المحامين إلى الأرائك النيابيّة والوزاريّة والرئاسيّة، ولا سيّما في حقبة مميّزة بين العشرينات والأربعينات من هذا القرن، هو الذي أنمى في بعض زملائنا الرغبة في الانضواء إلى العمل السياسيّ وإلى نقل مؤسّسة الديمقراطيّة من ساحات المحاماة إلى صميم الحياة البرلمانيّة. فسادت التربية المهنيّة المرتوية بالطبائع الديمقراطيّة في ردهات وأروقة الحياة النيابيّة، وما زالت عطاءات هؤلاء المحامين الأعلام مائلة في تاريخ البرلمانيّة في لبنان، ولا بدَّ من التيمُّن بإيراد ذكر النقباء الرؤساء إميل ادّه وبشاره الخوري وبترو طراد دون إغفال اسم النقيبين وديع أنطون نعيم وروكز أبو ناضر في عداد هؤلا المجلّين، الذين أتى الكثيرون بعدهم يقتفون خطاهم، وكان من ثمارهم أنّهم أثبتوا أنّ العمل السياسيّ البرلمانيّ للمحامي ليس نشاطًا جاريًا خارج الذات بل إنّه رحلة في صميم الكيان، إذا صحبته السجايا المهنيّة الأصليّة.
ولا شكَّ في أنّ عطاء المحامين في لبنان هو الذي ساعد على ترسيخ الخلّة الديمقراطيّة في الصدور، مستهلّة في رحاب دارات العدل، ومعرّجة على الساحة البرلمانيّة ومنها إلى إفناء المجالس الوزاريّة والرئاسيّة، وغدت هذه الطبيعة سمة الاستدلال الملازمة للحياة العامّة في لبنان، بالرغم من بعض النكسات الطارئة، وجاءت هذه السمة فاصلة بينه وبين الدول التي يجدر بها _ إذا كانت عربيّة _ أن تتطلّع إلى الفكاك من قيود السلطات المستأثرة ومن الإغفاءة على مقاعد الحكم، وأن تنشد الوثبات الحرّة المفضية إلى التجدُّد، التي دعا إليها الشاعر العربيّ القديم القائل:
وبِمَكثِ الماءِ يبقى آسنًا وسُرى البدرِ به البدرُ اكتملْ
(يراجع: مقدمة كتاب أوغست باخوس خمسون عامًا مع الوفاق والإصلاح والإنماء للدكتور جورج هارون)