يوبيلٌ ذَهَبي في نقابة المحامين
عصام فؤاد الخوري
يوبيلٌ ذَهَبي في نقابة المحامين
فدىً لعين الحق عيني
كلمة في حفل اليوبيل الذهبي في بيت المحامي في 16/10/2009 تكريماً لنقباء ومحامين مارسوا المحاماة خمسين سنة.
إذا كان من سعادة ... أنا الليلة سعيد!
ويُسامحُني صاحب النبيّ، "جبران خليل جبران"، القائل: " وما السعادةُ في الدنيا سوى شبح يُرجى، فإنْ صار جسماً ملَّهُ البشرُ "
" شكسبير "، ما كان يجدُ في الدنيا وسادةً أنعم من حضن الأمّ ولا وردةً أجمل من ثغرها، حبّذا هذه الساعة، ننعمُ فيها بلَثمة من ثغر أمّنا نقابة المحامين ونَغْنَمُ بغفوة هانئة مُتوسّدين حضنّها الدافئ الرخيم.
فنقابة المحامين في لبنان هي الأمُّ، يومَ الأمومةُ حبٌّ ومنحةُ حياة وحقٌّ بالرعاية، وهي السنديانةُ الدهريّة العملاقة، يومَ الظلالُ انتعاشٌ وبَرَكَةٌ واحتضانُ أجيال وتراث؛ وهي لنا، نحن، أبنائها المحامين، مرآةُ مجد وزهرةُ نبل وكبرياء؛ وما أحببناها إلا روحاً تختزنُ الحقَّ والحقيقة... سبحانك ربّي مَنْ رَصَّعتَ بالماس تاجَها.
أيّها الأصدقاء،
يُعزّني أن أتحدّثَ باسم الزملاء، في هذا اليوبيل الذهبيّ،
اليومَ أُعطيَ لي مَجدُ المحاماة،
اليوم، أشعر أنَّني أكبرُ من العمر،
اليوم، أنا في شموخ ما عَرَفتُهُ محامياً ونقيباً ووزيراً، فكأنّي أنا أمين نخلة، وكأنّ زملائي سعيد عقل وهو يخاطبُ الأمين :
بَيني وبينَك لا عرشٌ ولا تاج قم نرتق الخُلدَ، شعري اليومَ معراجُ
صدقتَ سعيد! دعني بشعرك ألوذ كي ألبّيَ النداءَ؛ وببالي، قصيدتُكَ العصماء في يوبيل النقابة الماسيّ، حيثُ تقول :
ما الحقُّ؟ أنت! اشمخي كالنَسر عبرَ مَدى نمَّتك مدرسةٌ شعَّت هدىً بهدى
منها الأُلى لقَّنوا الدنيا كرامتها منك الأُلى القولُ هُم، والآخرون صَدى
(سبعٌ وخمسون)؟..مهلاً..ذاك بعضُ سنى عُدّي العصورَ شموساً واجمعي العَددا
فإن أُسمّ يُطلُّ المجدُ، قُل أَعَلَى من صيّروا الحقَ حقّاً، هل قدرتَ، ردى؟
ماذا! الدُّجى لفَّ من أصواتُهُم شَرَرٌ؟ دَعكَ، الخلودُ كصبح فصلّوهُ ردا
هُمُ هنا، وهنا من هُم بخطّهم ظَلّي، عظائم، حُضاراً هُنا وبُدى
لأولئك، من لبسوا الخلودَ أنحني خشوعاً، ولهؤلاء، الشموس الستّ والخمسين، أقفُ إجلالاً وإكباراً. خمسون سنة من العطاء... وما ملّوا الكفاحَ... أنّهم يمثّلون وجهاً رائعاً مشرقاً من وجوه النضال المخلص الحرّ في لبنان وعنوانَ نهضة فكريّة وحقوقيّة أَغنْت لبنان والعالم. قليلٌ أن يُقال هُمُ الوفاءُ...
" يضيقُ بمَد واحدهم زمانٌ فكيفَ تُراهُ يجمعهم لقاءُ " .
حقّاً، إنّه لأمرٌ جلل أن تحمل مشعل المحاماة عقوداً خمسةً ويبقى في زَندكَ الصلب كالسيف بتّاراً متوهّجاً. والزمن، أقوى النقّاد جميعاً، شاهدٌ .
أيّها الأصدقاء،
النقيب الأستاذ رمزي جريج، قام، الساعة، بعمل النحلة الذوّاقة فاختار أجمل الزهور وقَطَفَ أحلى الأريج وأطعمناها شهداً خالصاً... كلماتُه المفعمة بالحبّ، الملأى بجواهر المعاني، أخذتنا بعيداً على فوق وذهبت بنا صُعُداً إلى أعلى المرتقيات؛ فإخالنا نسوراً تجوبُ الآفاق وأجنحةً تسحبُ تيّاهةً على القمم ومناقيدَ تلاعبُ النجوم.
وإذا لمناسبة اليوبيل الخمسينيّ فعل ارتواء بمجد المحاماة والأدب في آن، ويتحقّقُ معها ما كنتُ أوطّدُ النفس عليه من اقتناع بأنَّ هذا المحامي النقيب، الهادئ الثائر، العالم المثقّف، هو فعلاً، ابنُ ذاك المنجم الكنز الذي قُدّ منه، في ساعة يُمن، القاضي العلّامة المرحوم خليل جريج، درّةٌ ثمينة من دُرر الفقه والقانون.
بادرتُك الطيبة، أخي النقيب، عقدٌ فريد قلّ أن زهى بمثله يوماً جبدُ المحاماة واكليلٌ من مَجد ضفرتموه على جبين كلّ واحد منّا. أيُّ محام زميل حاضر بيننا اليوم ما ودَّ أن ينالهُ في غد ما نالنا من تكريم ودلال.
على أنَّ واجبَ الإنصاف يحدوني إلى أن أَجهَر بكلمة حقّ : إنَّ الزملاء المــُكرَّمين، في هذا الاحتفال، ونفسي استثنيت، ما عَرفتُهم إلّا من طينة هذا النقيب الجليل، فهم أسيادٌ في الحقّ والأخلاق، فرسانٌ في المحاماة والوطنيّة، ألمعيّين في الشّعر والأدب، ما اعتلوا، مرّةً، منبراً أو منصّةً، خطباء ومترافعين، إلا وألهبوا الأسماعَ، وفجّروا المنابرَ؛ صاعقةً، قلْ، أو نهارٌ تُضرمُ ناراً ونورٌ يُطلع أنواراً.
أيّها الأصدقاء،
حَمَلنا نصفَ قرن، زملائي وأنا، إيماناً بنقابة تنزّهت من المعايب والملائم، ونذرت نفسها للحقّ والشرع والحريّة، ونهضت بقصور العدل ودُورها إلى أشرف المراقي. من هنا أراني مضطرّاً أن أنحني إزاءها، انحناءةً مجوسيّةً، وأنا شئتُ عُمري، مع مُكرَّمينَ كان لي شرف التحدُّث باسمهم، أن أكونَ مُقسطاً وعادلاً، بل شمعةً تُضيءُ محاريب القانون، وتكشفُ سَدادَ القصد، واستقامةَ المنهج وملاذ الأحكام بثقة كبيرة.
ويكونُ أن نَكسبَ مَحبَتها مُمثّلةً بدروع وأوسمة، فهي على هاماتنا غارٌ، مَنحتناها، مشكورةً، نقابةٌ تشبّثنا بها بفرح المسؤوليّة والمكتفين بالمنطق المشدود.
وهنا يحضرني بيتُ شعر كان يردّده والدي، رحمه الله، جاء فيه :
وسامُك رمزُ الجَهد ليس لزينة فزينةُ صدر الالمعيّ عزائمه
ليتني أستطيعُ مع رفقاء الدرب الطويل أولئك الين يُكرّمون اليوم، أن نردَّ الوفاءَ. من أخذَ يجب أن يُعطي. الزهرةُ تأخذ من الفجر نداه وتُعطي أَرَجَها. فرجاؤنا أن نفعل إيماناً برسالة المحاماة التي رأينا فيها، مَشعباً للحقّ وعدلاً مرضياً للشهادة، وقد أخذنا ذلك من كابر عن كابر.
خمسون سنة من المحاماة، ذلك هو الشرف وتلك هي البطولة، مَضَت من عمرنا وما قضت على حملنا، بدأنا الرسالة مع الرئيس العماد فؤاد شهاب، كانت آمالاً وأحلاماً... وكانت تلوحُ في الأُفق بوادر بناء الدولة وتطوير الإدارة واستقلاليّة القضاء ودعوة النخبة إلى الحكم.
وها نحن نودّع الخمسين من عمرنا في المحاماة، مع الرئيس العماد ميشال سليمان، ولا تزال الآمال آمالاً، ودَعوتُنا لا تزال إيَّاها، نتشاطر هُمومَها مع فخامة الرئيس.
المحامون، معكم، يا فخامة الرئيس، والآلاف من نخبة شبيبتنا تناديكم أن : أقدموا، أنتم تعرفون الداءَ، وتعرفون الدواء... في الأمس ناشدتم القضاة : " فلا تدعوا المجتمع ينحني للمفسدين...حقٌّ علينا أن ينعم أبناؤنا بوطن غدُه مشرقٌ تسوده العدالة... " لكن يا فخامة الرئيس لن تكون لنا دولة قادرة، عادلة، محترمة، طالما يتحكّم بها بعضٌ من أهل السياسة الذين يتخلّن عن كلّ الدولة، في سبيل مصالحَ شخصيّة وآنيّة. شياطين السياسة، هؤلاء، نقول لهم أضنيتمونا... قصاصُكم عدلٌ، ويتحقّقُ قول الشاعر :
(عمادُ) هل ترضي الشقاءَ لأمة ما أذنبت إلّا لأنّك تحلم
عدلٌ قصاصكَ، كم نبيّ جاءهم وأرادَ أن يتجمّعوا فتقسّموا
فخامة الرئيس لن تحوجَكَ عصا، ف"النجّار" هنا، يُمثّلكَ، سيفُ العدل في يُمناه والعكّازُ في يسراه... وعند الضرورة البارود متوافرٌ كلّ آن!
فحيثما هم المحامون، وكلاء طبيعيّون للوطن، في كلّحين بنعمة الهُويّة وميثاق الحياة... فعلُ الإعتداء عليه دعوةٌ مفتوحة للدفاع عنه. الوطن موكّلنا الأول. هذا القول الجوهري رزقني إيّاه زميلي وأخي معالي الأستاذ إدمون رزق وبكثير غيره، ثريّ المعاني، حال ضيقُ الوقت بيني وبين تلاوته، حسبي بواحدة من كلماته المـــلكات :
" قد يُقال : هؤلاء زملاء من الماضي يحنّن إلى زمانهم، لكنّكم، يا رعاكمُ الله، وأنتم على الخُطى، تعلمون أنّ ذخائرَ الأمس تُطيّبُ الحاضر، وتجوهرُ المستقبل " .
كلامٌ ولا أطيب يا سيّد الكلام.
زميلاتي، زملائي المكرّمين،
أشيوخاً أضحينا؟ هذه الحقيقة... لكنّ الحقيقة أيضاً، أنَّ زمن الشيخوخة هو زمن العزم، والشمعة التي لا تحترقُ لا تضيءُ... أمّا الحياة فلا يحدّها زمان... وليس في ساعة الزمن إلا كلمة واحدة هي : الآن.
خمسون سنة تآخينا فيها سلاحاً وتساوينا جهاداً، أَلفتُكُم، خلالها، تتزيّنون بحكمة الشيوخ يومَ كنتم شباباً، وأراكم الساعة، وأنتم شيوخ، تتحلّون بنشاط الشباب. فمن كان هذا حاله قد يُشيخُ بالجسم أمّا عقله فلا يشيخ. والقول هذا لشيشرون ciceron وبعده لأوسكار ويلد : كنتُ شيخاً في الشباب فلا عجب أن أكون شاباً في الشيخوخة.
أنتم وأنا، لا إخالنا نرومُ، الساعة، أن نكون إلّا كما أراد لنا أبو المحاماة شيشرون؛ ولا نتمنّى أن نرى إلى دنيانا غير ما رأى إلى دنياه الأخطل الصغير عندما أنشدَ من مشارف ثمانينه :
من كان من دنياه ينفض راحه فأنا على دنياي أقبض راحي
أنّي أُفدّي شمس كلّ أصيلة حَذَرَ المغيب بألف شمس صباح
أيها الأصدقاء،
قرأتُ، مؤخَّراً، للمفكّر والكاتب " هوراس مان " كلاماً يقول : " ساعتان من ذهب ضاعتا منّي بالأمس بين شروق الشمس وغروبها، كلّ ساعة مرصّعة بستّين دقيقة ماسيّة، لا شيء يعوّضهما لأنّهما ضاعتا إلى الأبد... " .
سألتُ نفسي هل يستطيع الإنسان أن يستمتع بكلّ لحظة من لحظات حياته؟ وهل يمكن أن يمرّ بالإنسان يومٌ لا يلهثُ فيه بحثاً عن مزيد من الوقت؟
وقد يكون مفتاح هذا السرّ هو عيش اللّحظة الحاضرة. فيُتاح لنا، إذّاكَ، الشعور بالسعادة وأن نخطو خطوة أولة نحوَ حياة أكثر فرحاً وتحقيقاً للذات...
خمسون سنةً من ذهب ضاعت من عمري بين شروق في المحاماة وغروب... كل سنة مرصّعة بثلاث ماية وخمسة وستين يوماً ماسيّاً، لا شيءَ يعوّضها، ضاعت إلى الأبد... ما هَمّ؟! من أجل ما ضاعت؟ من أجل من؟
من أجل الحقّ ضاعت... من أجل الحرّية ضاعت... من أجل الإنسان.
ما ضاعت إذاً! وأقولُ فدىً لعين الحقّ عيني... وفدىً لكرامة الإنسان عمري!
حيّاك الله وبيّاك نقابة المحامين، أُمّنا، حلاوة مهما يزد عليها يومٌ تزد.
تحيّة لك حمَّلنيها إخوةٌ، باسقاتٌ خضرٌ في بستان المحاماة أفواحُها باقياتٌ جوهراً وشذىً... هيهات، أن يُجتنى مثلها من أيّ بستان.
( يراجع في ذلك، كتاب هامات وهالات، عصام فؤاد الخوري، ص 215)