"بيروت أمّ الشرائع" و"مرضعة القوانين"
" أمّ الشرائع" و"مرضعة القوانين"
تطلّ مدرسة بيروت على دنيا الفقه ظاهرةً فريدة في نوعها. نشأت فازدهرت فتألّقت فدام تألّقها من أواخر القرن الميلاديّ الثاني حتّى أواسط القرن الميلاديّ السادس، ما يفوق ثلاثة قرون ونصف القرن. قلّما عرفت مدرسة في كتب السيرة وفي القصائد وأدب المراسلة، بل في المدوّنات الرسميّة، ما عرفته بيروت ومدرستها من أوصاف لا عهد لنا بها إلاّ في كتب الملاحم والأساطير. حتّى ليكاد ناقلها يُتّهم بالهوس أو المبالغة، مهما تأنّى وشدّ العنان إلى قلمه والكلمات. وقلّما عرفت مدرسة في التاريخ القديم مثيل هذا الاستمرار في التقدّم والارتقاء، أو مصيرًا يضاهي هذا المصير.
ولولا زلزال مدمّر وحرائق هائلة أطاحت المدينة وكادت تزيلها من الوجود بأبنيتها الرائعة وصروحها الفاتنة، لربما كانت مدرستها عمّرت أعمارًا مديدة، قاهرة الدهر والنسيان.
في السنة 529 م، هزّة أرضيّة ضربت مدينة بيروت فنجت منها بصعوبة. إلاّ أنّ هزّة أشدّ عنفًا وهولًا عادت وضربتها في 16 تموز 551 م، فدكّت مبانيها وجسورها وأسوارها الّتي تناثرت على الأرض أنقاضًا وركامًا. وإذ بالبحر على موعد مع الزلزال يتراجع جزرًا مسافة ميلين من الشاطئ ليعود ويثب من جديد جبالًا من الأمواج الهائجة. وبعدها شبّت حرائق دامت شهرين، فالتهمت الأخضر واليابس، محوّلة أشلاء المباني كومًا من الحجارة المكلّسة.
وصف الأب لامنس، نقلًا عن أغاسياس، ما خلّفه الزلزال والحرائق من خراب ودمار، وكيف أنّ بيروت، "أجمل عيون فينيقيا"، عُرّيت من جمالها وبهائها، فزالت عماراتها الرائعة من الوجود. ولم يبقَ سوى الحطام انطمرت تحته جثث السكان، مواطنين وشبّانًا من أسر نبيلة أتوا من الخارج قاصدين بيروت للالتحاق بمدرستها. أُحصي عدد الضحايا فبلغ ثلاثين ألفًا، فانتقلت المدرسة إلى صيدون بانتظار إعادة تعمير المدينة.
وكان أن أمر يوستنيانوس بإرسال حمولات من الذهب لإعادة البناء وللبحث عن الجثث الغائبة تحت الأنقاض بغية دفنها لائقًا. فأُعيد تعمير بعض الأحياء المهدّمة وأُعدّت الترتيبات لتدشين "بيروت الجديدة" وإرجاع قدامى أساتذتها إلى مدرستهم. إلاّ أنّ حريقًا آخر اندلع سنة 560 م. فالتهم كلّ شيء ولم يترك أثرًا بعد عين. وفي السنة 600 م. كانت بيروت لا تزال يبابًا وارضًا محروقة.
وربما استمرّ نشاط مدرسة بيروت في صيدون حتى الفتح العربيّ سنة 635 م، فغابت إلى الأبد.
ثمّة مدن كُتب لها أن تتوالى عليها الكوارث وتترى. لم تكن الهزّات الأرضيّة حدثًا جديدًا على أرض فينيقيا. لقد سبقه زلزال مدمّر سنة 349 م. أطاح قسمًا كبيرًا من بيروت دون ان يُطيح مدرستها. حتّى غدت الزلازل "بيتًا" لسكانها. وترامى دويّ المأساة حتّى أطراف الغرب البعيد، فإذ بشاعر إسباني يرثي بيروت بعد دمارها، يتخيّلها تخاطب نفسها فتقول: "بيروت، يا أتعس مدن الدنيا! ها أنا الرائعة الحسن ماضيًا، أغيب اليوم عن الوجود. إلّا أيّها الذاهبون ترثون لحالي، ابكوا عليّ، ابكوا على بيروت، لم يبقَ منها إلاّ الرماد". Jean Barboucolos ,Anthologie LIV, pp. 425 -427
وكان أن أتّهمت بيروت بأنها ظلّت جزيرة رومانيّة في البحر الإغريقيّ. فكأنّما قُيِّض للمأساة، بمفهومها اليونانيّ أن تستمطر غضب الآلهة لتفتك بصرح أصبح مجده همًّا عليه وثقلًا.
كانت الأمبراطوريّة الرومانيّة احتضنت ثلاث مدارس وأبقت على امتيازاتها الرسميّة. إلاّ أن واحدة منها نعمت بهذا الاستمرار على مدى ثلاثة قرون ونصف القرن، هي مدرسة بيروت. بل إنّ مدرسة العاصمة روما رأت أفول نجمها في عهد الأمبراطوريّة السفلى في حين لم تعرف مدرسة بيروت هذا الأفول. وحتّى بعد أن أُنشئت مدرسة للحقوق في القسطنطينيّة، عاصمة الشرق و"مفخرته"، وعلى الرغم ما أُغدِقَ عليها من حُبوةٍ ورعاية، فإنّها لم تستطع أن تحجب وهج بيروت ومدرستها. واستمرّ تقاطر الطلاّب إليها من المناطق البعيدة، ومن القسطنطينيّة نفسها يقصدونها قبلةً ومنارة.
فما سرّ هذا الحضور؟
تتعدّد الأسباب والتصوّرات، إلاّ أنها تصبّ في مصبّ واحد.
كانت صور عاصمة فينيقيا، وبيروت تابعة إداريًّا للحاكميّة هناك. إلاّ أنّ مدينة بيروت، بمركزها الجغرافيّ على باب الشرق بين البحر المتوسّط ومقاطعات آسيا الغنيّة بزراعاتها وثرواتها الطبيعيّة، كانت أشبه بمصطبة فريدة للتسوّق والمعاملات، ولمرور المؤن والحاصلات، ولتوارد الأفكار والفلسفات. فإذ بهذه العوامل تتجمّع وتُهيّئ الأجواء لنشوء علائق بين الناس ومشاكل ودعاوى تتطلّب صيغًا وحلولًا وفتاوى. أمّا السكان فهم منذ القديم فينيقيّون برعوا في التجارة وسوق المبادلات، وفي المغامرة والأسفار، فباتوا مؤهّلين للمناظرات والتركيبات القانونيّة.
لقد سمّي مرفأ بيروت "بوّابة الشرق" على شاطئ البحر المتوسّط، وهو البحر الّذي كانت تنتهي عنده حدود عالم ذلك الزمان. فمهّد للمدينة سبل الاتّصال بشواطئ أوروبا وبالعاصمة روما، حتّى قيل، إثر انتشار الحضارة اليونانيّة على مطارح التراث الشرقيّ، إنّ بيروت الفكر وبيروت النهج ظلّت "جزيرة رومانيّة" أو "حاضرة لاتينيّة" أكثر من أيّة مدينة شرقيّة أخرى. لقد خصّها الأباطرة بحظوة قلّ نظيرها. فأنزلوها منزلة "المدينة الأمّ" وأنشأوا فيها أمانة رسميّة لحفظ الدساتير. ومنحوا مدرستها امتيازًا رسميًّا للتعليم. واستعان الأمبراطور يوستينيانوس بأساتذتها لوضع مجموعاته القانونيّة. وبعد زلزال 551 م، أرسل كميّات من الذهب لإعادة تعميرها، تدليلًا على مكانتها وما يكنّ لها من اعتبار.
وفي ظنّنا إنّ هذه العوامل مجتمعة، ومع التسليم بوجاهتها وقوّة تأثيرها، إنّما تبقى قاصرة عن رسم الصورة كاملة وبقسماتها جميعًا. فلا الحدب الخاص الّذي حباها به الأباطرة، ولا مركزها الجغرافيّ، ولا مرفأها العسكريّ والتجاريّ، ولا كاتدرائيّة آنستازيا وقيام المدرسة في ظلال أعمدتها الرخاميّة الرائعة الجمال، هي الّتي حفظت لها اعتبارها على مرّ الأجيال والقرون. ولا إيثارها التراث الفقهيّ الكلاسيكيّ والإصرار على تدريسه بروحه الأصيلة هو الّذي وطّد لها وحده مكانتها وحضورها المستديم. بلّ ربّما كان هذا العامل ليقوم بدور معاكس في عهد الأمبراطوريّة السفلى، الّذي هو عصر جمود وانحطاط وتراخٍ سياسيّ، والّذي يُؤلّف، في مفارقة معبّرة بالنسبة إلى مدرسة بيروت، إحدى ذرى نشاطها وازدهارها.
إنّ سرّ المدرسة إنّما يكمن، في نظرنا، بكلمة تختصر كلّ شيء: "العبقريّة". لقد استعمل المؤرّخون للتعبير عنها ألفاظًا شتّى، فلهجوا "بالانتصار الدائم" الّذي حقّقته، وبأنّها "الوحيدة" الّتي عرفت كيف تحتفظ "بقدرتها الفائقة على الخلق والإبداع"، هذا إلى طاقتها الدائمة على التجدّد ومواكبة الأحداث. فمع محافظتها على التراث الفقهيّ الرومانيّ في العصر العلميّ، ومع حرصها على تدريس مبادئه بالروح الأصيلة الّتي ابتكرها ملوك القانون، أمثال بابنيانوس وأولبيانوس وبولس وغايوس ومودستينوس، عرف أساتذة بيروت كيف يكسرون الطوق وهو طوق نفيس في أيّ حال فيهذّبون أحجاره، ويصفّفون درره، ويجعلون قوالبه متلائمة مع متطلّبات العصر ومتناسقة مع هندمات الناس والعادات.
وهذا لا يمكن أن يكون إلاّ نتيجة أصالة حضاريّة باذخة القيم وتراث إنسانيّ عريق يرقى إلى كنوز من المعرفة طواها الزمان، ومحا معالمها النسيان، فما بقي منها سوى أصداء مبهمة في أساطير مبعثرة تفوتنا حقائقها الضائعة، فنصفها ربّما خرافات غير جديرة بالاهتمام.
لقد قيل بحقّ إنّ تلك الطاقة على التجدّد هي " الثورة بعينها". إلاّ أنّ من ميزات هذه الثورة إنّها كانت ثابتة الحضور وجاهزة لاستيعاب طوارئ الأحداث. كانت ثورة دائمة على الذات، بل ثورة على الثورة، في كلّ ما يهمّ الحكم والنظام، وفي كلّ ما يتصل بحاجات الناس في علائقهم القانونيّة، مجتمعًا واقتصادًا وسياسة. وهل يخفى الدور الّذي لعبه أساتذة بيروت، وهو ما ألمحنا إليه في غير موقعٍ من هذا الكتاب، في تطوير أصول المحاكمة فتحوّلت من نظام معقّد جائرٍ في شكليّاته إلى نظام متقدّم وراقٍ على غير صعيد، غدا مصدرًا ومرجعًا للاقتباس في مفاهيمنا الحديثة.
وقد تمثّلت تلك الثورة إيّاها بغير ظاهرةٍ أقلّها اثنتان:
الظاهرة الأولى، عندما أمر يوستنيانوس بمنع تفسير النصوص القانونيّة منعًا باتًا، مجيزًا فقط ترجمتها من اللّاتينيّة إلى اليونانيّة، حيث اعتبر الامبراطور أن المجموعات الّتي وضعها بلغت من الكمال ذروته، فوصل التشريع معها إلى مستوى متقدّم جدًا لم يعد بحاجة إلى أحد يفسّره، خصوصًا أنّ من شأن التفسير، بمفهوم يوستنيانوس، أن ينطوي على تشويه النصوص وإفساد مقاصدها. لأجل هذا أجاز فقط الترجمة ليس غير، وبشرط أن تكون ترجمة حرفيّة تلازم الأصل ملازمة دقيقة. وأجاز عند الاقتضاء تلخيصها فقط، أو العطف من نصّ إلى آخر، مع منع التفسير بحدّ ذاته منعًا باتًا، وكذلك منع التعليق عليها إنْ بالشروح أو بالحواشي.
والحقّ يُقال إنّ هذا التضييق لم يلاقِ لآذانًا صاغية لدى أساتذة بيروت ولم يأبهوا لهذا المحظور ولم يقفوا عنده، فجالوا وصالوا في التفسير وتصدّوا غير متهيّبين للإرادة الأمبراطوريّة في عصيانٍ لا دافع ولا مبرّر له إلاّ التزامهم مبدأ الحريّة وعقيدةً راسخة أن لا انضباط لها في قضايا الفكر إلاّ بما تفرزه هي لنفسها من ضوابط وقيود. ففي "الدليل" الّذي وضعه دوروتيوس، خرج الملف خروجًا ظاهرًا على القيود اليوستنيانيّة. وكذلك فعل تاليليوس في "الدليل" الّذي تركه على "المجموعة"، حيث جال وجنح إلى التفسير والتوسّع. وأكثر من ذلك فإنّ في "الدليل" الّذي تركه اسطفان على موسوعة "الديجست" أمثلة عديدة على الإطناب في التفسير بما يخالف الأوامر اليوستنيانيّة مخالفة سافرة.
وغنيّ عن التنويه بأنّ منابت الفقه تكون حيث منابت الحريّة. فلولا الحريّة لما كان الازدهار الّذي شهده علم القانون إبّان العصر العلميّ، ولما كان له ذلك التألّق في كتابات أساتذة بيروت لولا انضباط فقهائه على سن الخلق والإبداع.
والظاهرة الثانية، نهجٌ جديد لم يكن مألوفًا قبلهم، يعتمد منطق التجريد والاستقراء، ما معناه الانطلاق، في البحث والبرهنة واستنباط المخارج والحلول، من المخارج والحلول الفرديّة الخاصّة إلى المبادئ العامّة، ومن الجزئيّ إلى الكلّيّ لجعله فرعًا من أصل، فينسلّ الحلّ ليشمل الكلّيّ وكلّ الحالات المماثلة.
الاجتراء على الأمبراطور وتحدّي القيود الّتي تتنافى والحريّة في مسالك التفسير، إلى تلك الرؤية النظريّة الشاملة في الاستدلال والاستقراء، ميزتان طبعتا نهج فقهاء بيروت، لا تفسير له إلاّ بأنه خميرة تراثٍ عريق يأخذ جذوره في الكتب، وفي الأرض والمناخات والتاريخ.
لقد تحوّلت في القرن الخامس لغة التعليم من اللاتينيّة إلى اليونانيّة. فإذ بالبيروتيّين يدرّسون القانون الرومانيّ بلغة اليونان. فتغيير الّلغة هو حدث بالغ الأثر في الثقافة وشؤون الفكر. ومع ذلك، وما يفترضه هذا التحوّل من انقلاب في الشكل والجوهر، لقد ظلّ إصرار أساتذة بيروت، مثله في أيّ وقت مضى، على وجوب فهم القواعد الرومانيّة بأصلها اللاتينيّ، والعودة دومًا إلى هذا الأصل لمعرفة دقائقها والوقوف على ما اكتنزته من حلول وتصويرات ومقاصد وغايات.
من هنا فرضت على الطلّاب معرفة أصول اليونانيّة إلى جانب اللاتينيّة. ومن هنا إمساك الأساتذة بطرفي ثقافتين أو فلسفتين، بل عالمين، في مدينة كانت كما قيل جزيرة رومانيّة سابحة في بحر الحضارة الأغريقيّة.
وإّذا كانت الطاقة على التجدّد ومواكبة الحاجات والأفكار مظهرًا من مظاهر العبقريّة، فإلى جانب التبدّل في اللغة ثمة تبدّل جاء من حيّز آخر يتناول تفسير النصوص. فلم يعد هذا التفسير أسير الكلمة حصرًا بل تحوّل أداة جديدة هي "التعليق على المتون". وهو تحوّل وأضحى، فيه ابتعاد عن النهج المتّبع في روما، وتقرّب من القسطنطينيّة. وهكذا فالصحيح تمامًا أنّ أساتذة بيروت كانوا يدرّسون القانون الرومانيّ، لكنّهم كانوا يدرّسونه مطعّمًا بأفكارهم المتوسطيّة، ومنظورًا إليه بمنظار مشرقيّ، وبما في الشرق من إطلالات وأغوار.
وواضح إنّ التزام هذا السمت في التكيّف والارتقاء كان يلبّي حاجة أو أمرًا مفترضًا في لعبة المنافسة مع مدرسة القسطنطينيّة. فهناك الأمبراطور وبلاطه ومقرّ إدارته. "وما يستطيبه الأمبراطور له قوّة القانون". وفي العام 425 م. أعيد تنظيم جامعة القسطنطينيّة بصدور دستور خاص جعلها "جامعة دولة". كانت المنافسة مما لا يمكن أن يكون موضع استهانة. ومع ذلك لم تتأثّر مدرسة بيروت. بل زاد تألّقها وبلغ ذروته أبّان القرن الخامس. لا فضل في تواصل هذا الإشعاع إلاّ لتراثها المجيد ولأساتذتها المسكونين، أمثال كيرللوس وأودكسيوس وليونسيوس، وكدنا ننسى نابغتهم باتريسيوس.
وتجتاز المدرسة قطوع المونوفيزية مجتنبة خطرَها في خضمّ منازعة اليعاقبة و النساطرة ومقارعاتهم من هذا القبيل. كانت المدرسة تقوم في لحف كاتدرائيّة آنستازيا، وتُعطى الدروس في حرمها، بظلال أعمدتها عند الغروب. فلو لم يبادر اوستاتيوس، مطران الكنيسة، الى توقيع مقرّرات المجمع الخلقيدونيّ لربما كان تغيّر مسارها وادركها سوء المصير.
أفلا يقع هذا الانسجام بين الاقتناعات من جهة، ومقرّرات العصر من جهة ثانية، في خانة الاقتدار على التطور؟ وإذا كانت الاقتناعات هي التي تماشي روح العصر، أو العصر هو الذي يهادن تلك الاقتناعات، أوليس في الحالين الدليل الواضح على فطرة تليد في التكيّف والارتقاء؟
لقد جمع الاساتذة المسكونيّون، الى تضلّعهم من آثار العصر العلميّ في كتب اولبيانوس وأجوبة بابيانوس وبولس، معرفة عميقة بالدساتير وفتاوى الامبراطور، حتّى الاستفاضة. فوضعوا الشروح والتعليقات، وضمّنوها آراءهم الشخصيّة وعصارة اختبارهم الطويل في حقل التدريس. وواضح أنّ أكثر ما ساعدهم وأسهم في صقل مهارتهم وتأصيل ثقافتهم القانونيّة من هذا القبيل أنّهم لم يقصروا نشاطهم على التدريس إياه، بل ولجوا حقول القانون ومفاوزة من باب التطبيق، وتمرّسوا عليه من زاوية المران والاحتكاك بواقع المنازعات حيّةً معيوشةً لا أحرفاً جامدة في كتاب. فلم يستطع يوستنيانوس تجاهل قدراتهم. ولم تقوَ المسافات على حجب شعاع مدرستهم وتوهجها في آفاق الامبراطوريتين. فاضطرّ إلى الاستعانة بهم على قدم المساواة مع أساتذة عاصمته لوضع مجموعاته، وهي المجموعات التي تعتبر أحد منابع القانون الكبرى في العالم الحديث.
وغنيّ عن التنويه بأنّ المجموعات اليوستنيانيّة، وهي التي كان فيها لقلم كل من دوروتيوس واناطوليوس، الاستاذين في بيروت، أكثر من جولة وصولة، لم تكن مجرَّد عمل تجميعي اصطُفيت فيه نخبةُ مما حوته مصنّفات العصر العلمي، بل جاءت تلك المجموعات تنسج على نصوص ذلك العصر وتلقّحهما بمبادئ "الحقّ الجديد" الذي نهض على يد الاساتذة المسكونيين. فطاقة المدرسة على الإبداع لم تنحصر إذن بامتلاكها القدرة الدائمة على التطوّر ومماشاة العصر، بل هي تجلّت في العمق، أي في خلق ذلك "الحق الجديد"، وفي صهر أفكاره الشرقيّة بقوالب رومانيّة أصليّة. وحقًّا قيل ومن دون محاباة، انّ بيروت جديرة بات يكتب اسمها الى جانب اسم روما في صناعة القانون.
وهل أدلّ على مبرّة لصرح علميّ وعلى مخاض العبقريّة في ما يأتي ويصنع، من الاعتراف له بصفة "الأمومة، وهو لقب لم يترامَ الينا انّه أطلق على مدينة أخرى في التاريخ؟
واحد من المانيا تصوّر ابّان القرن السابع عشر، في أطروحة باللاتينيّة بعنوان بريتوس، روايةً زعم فيها انّ قراراً الهيًّا قضى بإنشاء المدينة على الشاطئ اللازوردي، وتتألّف الهيئة الحاكمة من اثنتين: منيرفا الهة العقل، وتميس الهة العدالة. فصدر الحكم وسط أبّهة باذخة عارمة، وحول المنصّة عرائس الشعر وفتيات الحسن و الدلال، شاخصات خاشعات.
وفي العام 1921، واحد من فرنسا مرَّ من هنا، أحبّ المدينة ودروس تاريخها قال فيها: "ثمّة مدن قَدَرُها أن لا تموت".
( يراجع في ذلك كتاب الأستاذ"اميل بجّاني" مدرسة بيروت للحقوق يليه شييشرون رائداً ومعلماً ص125...132 دار النهار للنشر)