الإيفاء بالوفاء
فمن الناحية الماديّة، يأتي المال إيفاءً لمن تكون ذمته الماليّة مثقلة بالديون والأعباء، فعند إبراء ذمّته تستقرّ علاقاته الماليّة وتتساوى حقوقه وواجباته تجاه دائنيه.
اما من الناحية المعنويّة، يبقى المال دون مفعول ولا يحقّق الغاية المتوخاة في العلاقات الإنسانيّة البعيدة كلّ البعد عن التعاطي الماديّ، فيبرز الوفاء وسيلة للإيفاء حالاًّ مكان المال في استقرار العلاقات المعنويّة بين البشر.
تأسيسًا على ذلك، ثمّة من يكون غير مدين ماليًّا، لكنّ ذمّته مرهقة طالما بقي مقصّرًا تجاه تضحيّات الآخرين الذين بذلوا نفسهم في سبيل لبنان.
فقد قال الشاعر أحمد شوقي في إحدى قصائده:
" وقَفتُم بينَ موتٍ أو حياةٍ فان رُمتُم نعيمَ الدهرِ فاشقوا"
" وللأوطان في دمِ كلِّ حرٍّ يـدٌ سلفت ودَينٌ مستحقُّ"
فالدين المتوجّب والمستحقّ علينا كأحرار ندفعه وفاءً، ومن يحاول التهرّب من الدفع تبقى ذمته مثقلة بالأعباء، وسيرذله التاريخ كما فعل مع الكثير من أمثاله.
فالمسيحيّون في لبنان مؤتمنون عيش الإنجيل المقدّس، وعند التزامنا بما أوصانا به الربّ يسوع لناحية العطاء، نكون قد حدّدنا مسار الوحدة فيما بيننا باحترام الآراء والأفكار المختلفة لكلّ مجموعة ضمن الإطار التي ترسمه وتحدّده لنا الديمقراطيّة وتضع علينا عدّة موجبات لبناء علاقات سليمة مع الشريك الآخر في الوطن ممّا يحتّم علينا عيش الإنجيل ضمن موجبات عدة:
واجب علينا تقديم الوفاء لشهدائنا ولشهداء لبنان أجمعين مهما كانت انتماءاتهم الدينيّة والحزبيّة والمناطقيّة، فإنّهم سقطوا دفاعًا عن لبنان كلاً وفقًا لقناعاته، فالعلاقات التي تربطنا هي علاقات أخوّة ورفقة سلاح ورباط وثيق بالتاريخ المشرّف وآمالًا بمستقبل زاهر اتّكالًا على ذكراهم الطيّبة.
واجب علينا التعاضد جميعنا لتقديم المساعدات الإنسانيّة والاجتماعيّة والماديّة لمصابي ومتضرّري الحروب التي اتّخذت مسرحًا لها في لبنان.
واجب علينا التواصل فيما بيننا من أجل بناء غد أفضل للبنان، والترفّع عن الحساسيّات والكفّ عن استحضار الماضي الأليم ومكنوناته في كلّ مرّة نتناقش فيها في المسائل المثارة، ونترك للديمقراطيّة تحديد وسائل انتقال السلطة وتداولها وكيفيّة استلام الحكم استنادًا إليها.
واجب علينا بناء الدولة على أسس سليمة، دولة قويّة قادرة على فرض هيبتها على كافّة الأراضي اللبنانيّة وتحول دون أيّ اعتداء خارجيّ على أراضيها وتسهر على رعاية المواطنين وتهدف إلى تأمين الراحة والبحبوحة لهم في كافة الميادين.
هذه القناعة نابعة من إيماننا بتضحيات من سبقنا، فحقّهم علينا دين يتضاءل ويتعاظم بقدر ما نكون لذكراهم أوفياء، هذا ما نؤمن به ومواظبون عليه، فانّ عروقنا تنبض بالحريّة تقدّس لبنان، تعشقه وتضحي من أجله، مؤمنين بأنّ شهداءنا لهم حقّ ودين علينا، فإنّهم لا يطلبون الّا الوفاء لهم والصلاة لراحة أنفسهم وذكر شجاعتهم وبسالتهم بتقديم ذاتهم على مذبح الوطن زودًا عنا ودفاعًا عن لبنان.
ولهم منّا وفاء نقدمه ايمانًا لما بذلوه للبنان.
المحامي جوزف وانيس